فضاء الرأي

عبد الله بشير يكتب.. الخرطوم.. مكشوفة “الضَهَر”.. خالية من المتملقين

 

الخرطوم.. مكشوفة “الضَهَر”.. خالية من المتملقين!
===========
عبد الله بشير
في الذكرى الثانية لقصفها، عدت إلى دار عائلتي الصغيرة بالخرطوم وأنا أمني النفس ان تحتويني وتعيد إلسكينة إلى نفسي الحائرة، هذه النفس حملت أقدام صاحبها ليرجع من حيث خرج، لعله يستعيد لها الملاذ الآمن بين الجدران المهدمة والسقوف المتدلية والغرف المبعثرة.. كثيرون من أمثالي يتمنون في قرارة أنفسهم أن تنتهي رحلة التيه والإنتقال بين أصقاع السودان أو دول الجوار لتحتضنهم منطقتهم او الحي الذي عاشوا فيه، وأن يرجعوا كما كانوا ليكونوا وسط جيرانهم
وذكرياتهم بحلوها ومرها.. ها انا أعود لأكون وسط قلة قليلة بقيت رغم الحرب أو عادت لعل حياتها القديمة تعود للحي الذي أصبح أكوام حطام متراكمة وهو لا يبعد سوى كيلوميترات قليلة من قلب الخرطوم و(القصر الرئاسي)..
نعود وقد نزعت منا صفة (ناس العاصمة) وهي الصفة التي لازمتنا وكانت تميزنا عن غيرنا من السودانيين.. وكنا نفخر بها (ونكاد بأخمصنا نطأ الثريا) رغم أن حينا كان بطباع أهله الحانية وكدحهم المتواصل (قرية قذفت في قلب مدينة)..
(ناس العاصمة) هي الصفة التي جعلت البعض يعتقد أننا أهل الحظوة والدلال.. الذين يحلبون خيرات السودان (وما دروا أننا الممسكون بقرون البقرة) لذلك تمرد وحمل السلاح في وجه (من يجلسون لحكم البلاد والعباد في شريط ضيق من النيل يحوي القصر والوزارات وينتهي بمبني مهمل مهجور اسمه برلمان الشعب)..
(ناس العاصمة) صفة نزعت عنا خلال الحرب وذهبت إلى ولاية تحوي مساكين أمثالنا، فلم نعد بذات النفخة والكبرياء الكذوب بعد أن نأي من يحكمون بالبعد عنا لأول مرة، وهجروا الشريط النيلي الضيق ولم يعودوا يجاورون الحي البسيط والشوارع التي احتضنت المتسولين وباعة الماء في السوق.. الخرطوم بغياب من يحكمون البلاد أصبحت وأمست خالية من المتملقين والمتسلقين وسماسرة المواقف وتجار اتفاقات (باركوها)..
مدينة ممعوطة بلا شعر يمشي عليه القمل أو (يُفلَّى عليه)..
تعود الخرطوم الآن وقد نزعت عنها الهالة والهيلمانة، فاستفاقت لحقيقة أنها (بلا ضَهَر).. مدينة سودانية (زيها وزي غيرها)، بل إن اغلب المدن حاليا أفضل منها، وإن ظلت هذه المدن (محلك سر) ولم تتطور لكنها لم تتعرض لنكبة الخرطوم التي صارت (تحت الصفر) بتاريخ مدمر وذكريات تحتاج لنفض التراب بعد أهال عليها الغزاة التراب وحاولوا (عمل فرمطة) وإحلال وإبدال.. وجعلها موطنا للهمج الذين ارادوا ان يحلوا محل أهلها، لذلك اعتقلوهم وعذبوهم وقتلوهم واغتصبوا حرائرهم وضربوا شيوخهم وأهانوا نسائهم وشردوا أطفالهم..
من يعود الآن للخرطوم (زول شايله حمار النوم) أو (كاتله الولف).. فهنا لا شئ غير المعاناة في جلب المياه.. والمعاناة في توفير اللقمة.. والمعاناة في طرد البعوض ومقاومة الظلام.. لكن (لا هذي ولا تلك ولا الدنيا بأجمعها) تعدل أن يستلقي في (هبابي) تحت شجرة نيمة ظللت الحكاوي والغناوي.. (سيبك الآن من حكاية تساوي مقرن النيلين يا سمراء.. ويمناه باليسرى ويسراه باليمنى.. فمن تطربهم لم يعودوا بعد.. والأفضل ألا يفعلوا)..
ورحم الله (مدينة) عرفت قدْر نفسها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى