فضاء الرأيكتاب اسكوب

المستشار العام بوزارة العدل/مأمون مكي حامد يكتب … النيابة العامة ما لها وما عليها

مأمون مكي حامد محمد مستشار عام (م) وزارة العدل ورئيس نيابة عامة سابق

المستشار العام بوزارة العدل/مأمون مكي حامد يكتب … النيابة العامة ما لها وما عليها

إطلعت على مقال مبذول في الوسائط الإجتماعية كتبه الشرطي السابق والمحامي حاليا د. الطيب عبدالجليل تحت عنوان قراءة تشريعية في قرار وزير المالية فرض الرسوم الموحدة على خدمات النيابة العامة (النيابة العامة دار افتاء وليس دار قضاء) طارحاً سؤالاً عن ماهية الحاجة للنيابة العامة؟ قائلا أن الإجابة على ذلك جاءت من المحكمة العليا وهي جهة مختصة عليمة) من خلال السابقة القضائية ع/ط ا/١٩٩٩/٤ إنعام محمد علي لطفي ضد وزير العدل والطعن بالإستئناف م ع/ط اس/٢٠٠٠ وزير العدل ضد إنعام محمد علي لطفي وحكم المراجعة م ع/مراجعة/٢٠٠١/٦٦ مدعياً أن أصحاب المصلحة من أنصار النيابة العامة عمدوا على رفع حكم المحكمة من قائمة أحكام المحكمة العليا بعدم النشر وهو إدعاء لا يسنده دليل أو منطق فليس كل أحكام المحكمة العليا تجد طريقها للنشر فهناك المئات منها غير منشورة ويبدو أن كاتب المقال يجهل ذلك ثم قفز ليتناول التقييم التشريعي لقانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٩١ وقانون النيابة العامة لسنة ٢٠١٧م متكئاًعلى ذات السابقة أعلاه التي وصفت النظام القانوني للنيابة العامة بالمهترئ داعياًللنظر في كتابه التشريع صناعة القانون (المفهوم والمنهجيات والنظريات والتطبيق) كاشفاًعن مبتغاه من وراء ذلك وهو إلغاء نظام النيابة العامة كأحد آليات تطبيق العدالة الجنائية والإستعاضة عنه بالنظام القديم قبل صدور قانون الإجراءات الجنائية ١٩٩١م والمعروف (بقاضي التحقيق وقاضي الإحالة). بإستقراء لما تقدم يمكنني القول أن ما طرحه كاتب المقال يفتقد الأمانة العلمية التي تقتضي تناول الفلسفة التشريعية للأخذ بنظام النيابة العامة كأحد آليات تحقيق العدالة الجنائية بدلاًمن الخلط المتعمد كالأخذ بمسابقة قضائية قادحة ذلك النظام وجعلها متكئاً لإلغائه فكما هو معلوم أن أي تشريع يسن ويصدر وفق حاجة المجتمع إليه ويطلع بذلك المشرعون (Legislators) من خلال مجلس تشريعي أو برلمان أو أي أداة لوضع التشريعات بالنيابة عن المجتمع (الشعب) فقانوني الإجراءات لسنة ١٩٩١م وقانون النيابة العامة ٢٠١٧م صدرا وفق هذه الآلية التشريعية الشرعية إبتداراًمن الحكومة وأخذا دورتهما التشريعية المعهودة إلى أن صدرا من المجلس الوطني بعد أن صادق عليهما رئيس الجمهورية بالموافقة فأصبحا تشريعين بأمر المجتمع (الشعب) وليت تعرض كاتب المقال لذلك من حيث المشروعية ولكنه لم يفعل.
بالرجوع للخلفية التاريخية لنشأة أجهزة العدالة نجد أن السودان كان يدار خلال الفترة الإستعمارية عبر ثلاث سكرتاريات وهي:
1- السكرتير الإداري (Civil Secretary)
٢-السكرتير المالي (Financial Secretary)
3- السكرتير القضائي (Legal Secretary)

ويترأس تلك السكرتاريات
الحاكم العام Governor General وكانت المصلحة القضائية تندرج تحت سلطة السكرتير القضائي وتباشر سلطات قضائية وتشريعية وتنفيذية ويتمثل ذلك الفصل في القضايا بأنواعها المختلفة وصياغة القوانين ونشرها وتنظيم أعمال المحاكم بأنواعها وتمثيل الحكومة في القضايا المدنية والجنائية ونتيجة لإتفاقية الحكم الذاتي (Self _ Government) بين إنجلترا ومصر في العام ١٩٥٣م تم الفصل بين السلطات الثلاث القضائية والتشريعية والتنفيذية فتم إنشاء مصلحة الضباط القانونيين ككيان منفصل عن المصلحة القضائية لتكون النواة الأولى لنشأة وزارة العدل بثلاث أقسام رئيسية المدني والجنائي
والتشريعي وتولى أمر رئاستها أبرز السادة القضاة حينها أمثال أحمد متولي العتباني أول نائب عام ومحمد أحمد أبو رنات أول رئيس للقضاء وصلاح الدين محمد شبيكة وعدد من كبار الشخصيات القانونية وأستمر الحال هكذا إلى أن تحولت مصلحة الضباط القانونيين إلى وزارة للعدل في العام ١٩٥٩م وكان أول وزرائه القاضي مدثر البوشي أحد أبرز القضاةالشرعيين وأحد الذين أسسوا دولة القانون في السودان ومن ثم تطورت وزارة العدل إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن مع الأخذ في الإعتبار إنفصال النيابة الجنائية عنها في العام ٢٠١٧م، قصدت هذه الفذلكة التاريخية لأدلف لتعريف مصطلح الضابط القانوني(Legal Officer) والتي حاول كاتب المقال الإتكاء عليه للتقليل من شأن أعضاء النيابة العامة والمستشارين القانونيين ودورهم الذي رسمه القانون فالضابط القانوني يعني على وجه العموم الشخص الذي تعينه جهة حكومية وتمنحه سلطة تنفيذ القانون ويتمتع بصلاحيات تنفيذية وقضائية في بعض الأحيان كالنيابة عن الدولة وصياغة التشريعات وقد أستغني عن هذا المسمى عند قيام وزارة العدل وأستعيض عنه بمصطلح مستشار قانوني ووكيل نيابة وفق القانون وهم في نهاية الأمر ليسوا قضاة وهو أمر ظل كاتب المقال يطرق عليه بشدة وهماً ظناً منه أن ذلك يقلل من شأن إستقلاليتهم وحيادهم اللذين نص عليهما الدستور وسلطتهم وإختصاصهم التي نص عليهما القانون وليته أرجع البصر كرتين عله يرى خطل ما ذهب إليه. وهذا يقودنا للحديث عن نظام النيابة العامة كأحد آليات تحقيق العدالة الجنائية فالمعلوم أن سلطات النيابة العامة وإختصاصاتها تختلف من نظام إلى آخر ومن ثم من دولة لأخرى فالنيابة العامة في ظل النظام الأنجلوسكسوني Common Law تعتبر جزء من السلطة التنفيذية ومهمتها الأساسية تمثيل الإتهام الجنائي ولا تتدخل عادة في التحقيق الجنائي الذي تقوم به الشرطة وتتمتع بسلطة تقديرية واسعة في إقامة الدعوى أو حفظها. ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتبع عادة الحكومة الفدرالية أو حكومات الولايات بحسب الحال وتتمتع بإستقلالية نسبية أما في بريطانيا فتتبع هيئة الإدعاء الملكي التي تتبع النائب العام الذي يتبع للحكومة وهي مستقلة عن الشرطة وتتمتع بإستقلالية نسبية أما النيابة العامة في ظل النظام اللاتيني (Civil Law) تعتبر جزء من السلطة القضائية وتتمتع بإستقلالية أكبر وتتبع لوزير العدل وتخضع لتأثير السلطة التنفيذية مثل تعيين النائب العام من قبل الرئيس وفرنسا وعدد كبير من الدول العربية مثالا لذلك وهذا بإيجاز شديد قد يكون مخلاً لوصف طبيعة النظامين أعلاه أما النظام في السودان فهو هجين فالنيابة العامة سلطة مستقلة وفقاًلأحكام المادة ١) ٨) من قانون النيابة العامة لسنة ٢٠١٧م ومسئولة مباشرة أمام رئيس الجمهورية عن أداء أعمالها وفق البند ٢ منها وتتمتع النيابة العامة بسلطات واسعة فهي تتولى وتشرف على كافة إجراءات الدعوى الجنائية قبل المحاكمة بما فيها التحري والتحقيق وتحويل الدعوى الجنائية للمحكمة ( النظام اللاتيني) وتمثيل الإدعاء ووقف الدعوى الجنائية (النظام الأنجلوسكسوني) وهناك مقاربات أخرى يتسم به النظامين يضيق المجال لذكرها، ولا تخضع قراراتها لأي رقابة في ذلك سوى الرقابة القضائية على الحبس لأكثر من ثلاثة أيام المادة ٤٣ وإستئناف القرار القاضي بحجز الأموال. وفي نهاية الأمر تمخض جبل كاتب المقال فولد فأراًفهو يدعو إلى إلغاء النيابة العامة والعودة لنظام قاضي التحقيق وقاضي الإحالة (الخصم والحكم) دون أن يتطرق إلى الأراء المتباينة وهو قول ليس بجديد فقد تم طرحه في جلسات الإستماع بالمجلس الوطني وتداول فيه جمع من المختصين وخبراء القانون ولكنه لم يحظ بالقبول ولم يشكل قناعة وكان نتاج ذلك ترجيح الأخذ بنظام النيابة العامة كأحد آليات تحقيق العدالة الجنائية كفكرة إنسانية وجهد بشري قابل للإصلاح والتطوير فعقارب الساعة لا تعود للوراء وأخيراً طرح الكاتب سؤالاً ساذجاً ينم عن سطحية التناول وعدم الإلمام بالقانون حينما تساءل عن وضعية ومكانة أعضاء النيابة العامة في سلسلة عمليات إدارة العدالة الجنائية في السودان هل نطلق عليهم إصطلاح الضباط القانونيين أم نطلق عليهم مصطلح قضاة/ قاضي وإجابتنا على كل لا هذا ولا ذاك فقانون الإجراءات الجنائية لسنة ١٩٧١م قد عرف صفتهم في المادة ٢ منه ( تفسير) بمصطلح أعضاء النيابة العامة وحدد مسمياتهم ودرجاتهم الوظيفية وفقاًلأحكام المادة ١٠ ومهام وإختصاصات النيابة العامة وسلطاتها وفقاًلأحكام المادة ١١ فهم وكلاء نيابة فحسب ويمثلون في مجموعهم أعضاء النيابة العامة وهو المصطلح الذي يجب أن يطلق عليهم ولنا أن نسأل كاتب المقال الشرطي السابق والمحامي حالياً أين مصطلحات وظائف الشرطة القديمة من الأميرلاي وقائم مقام واليوزباشي والصاغ وغيرها من المسميات الأخرى فقد الغيت وفقاً لقوانين الشرطة اللاحقة وأستعيض عنها بمصطلح وظيفي جديد يتمثل في الفريق واللواء والعميد والعقيد …. إلخ وهكذا هو حال مصطلح ضابط قانوني من حيث المسمى والإختصاص.
أتمنى على كاتب المقال بدلاًمن المناداة بإلغاء النيابة العامة أن يدعو ونحن معه إلى إصلاح نظام النيابة العامة في السودان تعزيزاًلإستقلالها وضماناًلحيادها تعزيزاً لكفاءتها المهنية وتحسين بيئة عملها وإصلاح القوانين ذات الصلة بما يحقق الإصلاح المنشود وأن لا نجعل قراراًكقرار فرض الرسوم على خدماتها يمكن تعديله أو إلغاؤه سبباًومعولاًلهدمها فصرح النيابة العامة ولد ليبقى ونواصل..
والله من وراء القصد
مأمون مكي حامد محمد
مستشار عام (م) وزارة العدل
ورئيس نيابة عامة سابق

~𝐒cooppress~ 🇸🇩

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى